الأحد، أبريل ٠٥، ٢٠٠٩

عقيدة -53 الإيمان بأقسام التقدير – و قضية الجبر و الاختيار

الحمد لله و صلى الله و سلم و بارك على عبده و رسوله محمد و على آله و صحبه أجمعين

الإيمان بأقسام التقدير – و قضية الجبر و الاختيار

أقـسـام الـتـقـديـر

س: ما هي أقسام التقدير و ما أدلة كل قسم من أقسامه؟

ج:

التقدير الأول: التقدير الشامل لجميع المخلوقات؛ بمعنى أن الله علمها و كتبها و شاءها و خلقها. و هي التي تقدم ذكرها.

و أدلته تقدمت في الدرس السابق.

التقدير الثاني: هو التقدير العمري؛ و المراد به رزق العبد و أجله و عمله و شقاوته و سعادته.

و دليله ما ورد عن عبد الله بن مسعود قال حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم -وهو الصادق المصدوق-: (إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه، أربعين يوما نطفة ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسَل إليه الملك فيؤمر بأربع كلمات: يكتب رزقه و أجله و عمله و شقي أو سعيد) الحديث... رواه أبو داود و ابن ماجة وابن حبان و صححه الألباني و الأرناؤوط.

التقدير الثالث: هو التقدير السنوي في ليلة القدر؛ ففيها يكتب من أم الكتاب ما يكون في السنة من موت و حياة و رزق و مطر، و ما يقوم به العباد من أعمال و نحو ذلك.

و دليله قوله تعالى (فيها يفرق كل أمر حكيم) قال ابن عباس: «يكتب من أم الكتاب في ليلة القدر ما هو كائن في السنة من الخير و الشر و الأرزاق و الآجال، حتى الحجاج يقال يحج فلان و يحج فلان»، قال الحسن و مجاهد و قتادة: يبرم في ليلة القدر في شهر رمضان كل أجل و عمل و خلق و رزق و ما يكون في تلك السنة.

التقدير الرابع: هو التقدير اليومي؛ و هو سوق المقادير إلى المواقيت التي قدرت لها فيما سبق.

و دليله قوله تعالى (كل يوم هو في شأن)؛ قال المفسرون: في شأنه أنه يحيي و يميت و يرزق و يعز قوما و يذل آخرين و يشفي مريضا و يفك عانيا و يفرج مكروبا و يجيب داعيا و يعطي سائلا و يغفر ذنبا إلى ما لا يحصى من أفعاله و أحداثه في خلقه.

== فصل ==

قلنا أن الإيمان بالقدر يقوم على أربعة أركان، من أقرَّ بها جميعاً فإن إيمانه بالقدر يكون مكتملاً، و من انتقص واحداً منها أو أكثر فقد اختل إيمانه بالقدر، و هذه الأركان (أو المراتب) الأربعة هي:

الأول: الإيمان بعلم الله الشامل المحيط.

الثاني: الإيمان بكتابة الله في اللوح المحفوظ لكل ما هو كائن إلى يوم القيامة.

الثالث: الإيمان بمشيئة الله النافذة و قدرته التامة، فما شاء كان و ما لم يشأ لم يكن.

الرابع: الإيمان بخلق الله لكل موجود، لا شريك لله في خلقه.

يقول المؤلف رحمه الله:

وهذه المراتب الأربع شاملة لما يكون من الله تعالى نفسه ولما يكون من العباد، فكل ما يقوم به العباد من أقوال أو أفعال أو تروك فهي معلومة لله تعالى مكتوبة عنده والله تعالى قد شاءها وخلقها: )لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ * وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ) (التكوير: 28، 29). (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ) (البقرة: الآية253). (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ) (الأنعام: الآية 137) .)وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ) (الصافات: 96).

ولكننا مع ذلك نؤمن بأن الله تعالى جعل للعبد اختياراً وقـدرة بهما يكون الفعل، والدليل على أن فعل العبد باختياره وقدرته أمور:

الأول: قوله تعالى: (فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ) (البقرة: الآية 223). وقوله: (وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً) (التوبة: الآية 46). فأثبت للعبد إتيانا بمشيئته وإعداداً بإرادته.

الثاني: توجيه الأمر والنهي إلى العبد، ولو لم يكن له اختيار وقدرة لكان توجيه ذلك إليه من التكليف بما لا يطاق، وهو أمر تأباه حكمة الله تعالى ورحمته وخبره الصادق في قوله: (لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا) (البقرة: الآية 286).

الثالث: مدح المحسن على إحسانه وذم المسيء على إساءته، وإثابة كل منهما بما يستحق، ولولا أن الفعل يقع بإرادة العبد واختياره لكان مدح المحسن عبثاً وعقوبة المسيء ظلماً، والله تعالى منزه عن العبث والظلم.

الرابع: أن الله تعالى أرسل الرسل (رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً) (النساء:165). ولولا أن فعل العبد يقع بإرادته واختياره، ما بطلت حجته بإرسال الرسل.

الخامس: أن كل فاعل يحسُّ أنه يفعل الشيء أو يتركه بدون أي شعور بإكراه، فهو يقوم ويقعد ويدخل ويخرج ويسافر ويقيم بمحض إرادته، ولا يشعر بأن أحداً يكرهه على ذلك، بل يفرّق تفريقاً واقعياً بين أن يفعل الشيء باختياره وبين أن يكرهه عليه مكره. وكذلك فرّق الشرع بينهما تفريقاً حكيماً، فلم يؤاخذ الفاعل بما فعله مكرهاً عليه فيما يتعلق بحق الله تعالى.

أفعال العباد مخلوقة مقدرة

أولا: خلق الله لأفعال العباد:

لا يخرج العباد و أفعالهم عن غيرها من المخلوقات، فقد علم الله ما سيخلقه من عباده، و علم ما هم فاعلون، و كتب كل ذلك في اللوح المحفوظ، و خلقهم الله كما شاء، و مضى قدر الله فيهم، فعملوا على النحو الذي شاءه فيهم، و هدى مَن كتب الله له السعادة، و أضل مَن كتب عليه الشقاوة، و علم أهلَ الجنة و يسرهم لعمل أهلها، و علم أهلَ النار و يسرهم لعمل أهلها.

قال تعالى: (والله خلقكم وما تعملون)، و قال: (وكل شيء فعلوه في الزبر)، و قال: (وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه وما يُعمًّر من مُّعمَّر ولا يُنقص من عمره إلا في كتاب إن ذلك على الله يسير). و قال: (من يهد الله فهو المهتدى ومن يضلل فأولئك هم الخاسرون)، و قال: (إنّ ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين).

و جاءت أحاديث كثيرة تواتر معناها على أن رب العباد علم ما العباد عاملون، و قدّر ذلك و قضاه و فرغ منه، و علم ما سيصير إليه العباد من السعادة و الشقاء، و أخبرت مع ذلك كله أن القدر لا يمنع من العمل: (اعملوا فكل ميسر لما خلق له).

ثانيا: أفعال العباد بقدرتهم و اختيارهم:

و للعباد قدرة و مشيئة بها تقع أفعالهم: (اعملوا ما شئتم إنه بما تعملون بصير)، و الله خالقهم و خالق مشيئتهم، و هم لا يشاءون إلا أن يشاء الله.

و خلق أفعال العباد و مشيئتهم لا يعني إلغاء هذه المشيئة بل هي موجودة مخلوقة و لكن مشيئة الله فوق ذلك، و مشيئته سبحانه تنفذ فيهم من خلال ما يفعلون بأنفسهم و مشيئتهم.

و مشيئة العباد لها أثر في أفعالهم، بها تقع تلك الأفعال و هذا هو الكسب: (لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت). والدليل على أن فعل العبد باختياره وقدرته أمور ذكرها المؤلف ببساطة و وضوح يغنيان عن الشرح.

فالإنسان ميسر لما خلق له: ليس مسيرا بمعنى لا إرادة له و لا اختيار، و ليس بمخير بمعنى مطلق الاختيار لا سلطان لله على قلبه و مشيئته، فالقول بالجبر المطلق و الاختيار المطلق باطل.

فالجبر طعن في التشريع، و نفي مشيئة الله طعن في التوحيد: (و اعملوا، فكل ميسر لما خلق له) (رواه البخاري ومسلم والترمذي وابن ماجه).

== الخلاصة ==

خلافا للجبرية (القائلين بأن الإنسان مجبور على فعله فلا اختيار له) و كذلك للقدرية النفاة (القائلين بأن الإنسان يخلق فعل نفسه)...!

فإن منهج أهل السنة يقوم على:

-         الإيمان بخلق العباد و خلق أفعال العباد و خلق مشيئة العباد...

-         إثبات المشيئتين: مشيئة الله و مشيئة العباد، و لكن مع تقديم مشيئة الله على مشيئة البشر، فقد أثبت الله المشيئتين؛ و بين أن مشيئة العبد تابعة لمشيئة الرب، في مثل قوله تعالى: (فَمَن شَاءَ اتَّخَذَ إلَى رَبِّهِ سَبِيلاً * ومَا تَشَاءُونَ إلاَّ أَن يَشَاءَ اللَّهُ إنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيما)...

-         و الالتفات الكامل إلى الأسباب: شرك في التوحيد...

و محو الأسباب أن تكون أسباباً: نقص في العقل...

و الإعراض عن الأسباب المأمور بها: قدح في الشرع...

فعلى العبد أن يكون قلبه معتمداً على الله لا على سبب من الأسباب، و الله ييسر من الأسباب ما يصلحه في الدنيا و الآخرة...

*****

و الله أعلم.

سبحانك اللهم و بحمدك.. نشهد أن لا إله إلا أنت.. نستغفرك و نتوب إليك.

يتبع إن شاء الله الدرس القادم تفصيل الإيمان بالقدر.

 

ليست هناك تعليقات: