الاثنين، يونيو ٣٠، ٢٠٠٨

عقيدة -33 الإيمان بالرسل (2)

الحمد لله و صلى الله و سلم و بارك على عبده و رسوله محمد و على آله و صحبه أجمعين

الإيمان بالرسل (2)

ذكرنا أن الإيمان بالرسل يتضمن أربعة أمور:

الأول: الإيمان بأن رسالتهم حق من الله تعالى؛ فمن كفر برسالة واحد منهم فقد كفر بالجميع...

كما قال الله تعالى: "كذبت قوم نوح المرسلين" فجعلهم الله مكذبين لجميع الرسل مع أنه لم يكن رسول غيره حين كذبوه وعلى هذا فالنصارى الذين كذبوا محمداً صلى الله عليه وسلم ولم يتبعوه هم مكذبون للمسيح بن مريم غير متبعين له أيضاً، لا سيما وأنه قد بشرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم ولا معنى لبشارتهم به إلا أنه رسول إليهم ينقذهم الله به من الضلالة ويهديهم إلى صراط مستقيم....

حاجة الناس للرسالة

يقول الإنسان لنفسه فى كل جاهلية (هي الحال التي كانت عليها العرب قبل الإِسلام من الجَهْل بالله سبحانه ورسوله وشرائع الدين والمُفاخَرَة بالأَنساب والكِبْر والتَّجَبُّر وغير ذلك)، و في الجاهلية المعاصرة بصفة خاصة: إن لي عقلاً يفكر، فأنا أفكر بعقلى وأدبر أمرى كله بغير حاجة إلى هداية الله.

ثم يكون من نتيجة ذلك كل الضلال والظلم والاضطراب الذى تعج به كل جاهلية....!

إن الإنسان الجاهلي حين يقول هذه القولة الضالة يغفل عن مجموعة من الحقائق:

يغفل أولاً عن أن هذا العقل الذى يتيه به عجباً هو موهبة من عند الله وليس كسباً ذاتياً من عند الإنسان! فواجب الشكر على هذه النعمة ذاتها يقتضي أن يرجع الإنسان إلى ربه فيما أمر به من منهج لاستخدام هذا العقل و الاستفادة بطاقته، و قد رسم الله منهجاً للتفكر في ملكوت الله يؤدى بالإنسان إلى معرفة الله الواحد الحق، ويما ينبغيي تجاه الله من عبودية و طاعة و التزام.

و يغفل ثانياً عن أن الله منشئ هذا العقل و مانحه للإنسان قد جعل لطاقته حدوداً معينة لا يستطيع أن يتعداها، ثم كلفه ما يدخل في طاقته، و لم يكلفه ما لا يقدر عليه و ما ليس من شأنه.

فالإنسان رغم ما زوده الله تعالى به من وسائل معرفية إلا أنه لا يستطيع الإحاطة في معرفته إلا بالقدر اليسير من كثير مما حوله في هذا الكون الفسيح المحسوس المرتبط ارتباطا وثيقا بحياته ذلك أن أكثر ما في هذا الكون يدخل في عالم الغيب النسبي أو المطلق بالنسبة للإنسان مما يجعله في حاجة إلى مصدر عليم بأمر الكون حتى يزوده بمعلومات تزيح عنه الستر وتكشف عنه بعض الغيب...

(أصل معنى الغيب "كل ما غاب عنك من شيء"، و لقد قسم العلماء الغيب إلى قسمين:

الأول: الغيب المطلق أو الحقيقي: وهو أن يغيب عن الحواس والعقول معا، وهو المقصود عند الإطلاق مثل الأمور الخمسة وغيرها.

الثاني: الغيب النسبي أو المقيد: و هو ما يغيب عن بعض المخلوقين دون البعض الآخر، كالذي يعلمه الملائكة عن أمر عالمهم دون البشر، و كالذي يعلمه بعض البشر دون البعض الآخر مثل العلم بالأقطار النائية و علم الطبقات الأرضية، و العلوم الطبية و نحو ذلك، و من ذلك أن يغيب الشيء عن حس الناس جميعاً و لكنه يكون في متناول عقولهم إما بالتجربة أو المقايسة، كعلم ما سيقع في المستقبل كعلم الأرصاد و علم الفلك، و نحو ذلك استنباطاً من التجارب الكونية و السنن الربانية، و كل ذلك ظنيّ و ليس قطعياً).

كما إن الإنسان مفطور على عبادة الله تعالى و مأمور بذلك وجوبا فيلزم أن تكون تلك العبادة على علم بالمعبود و هو الله تعالى و هذا العلم لا يمكن الوصول إليه مفصلا بالعقول المجردة، كما أن العبادة لا يمكن معرفة كيفيتها بالعقول المجردة و بذلك يكون الإنسان بحاجة دائمة إلى خبر من مصدر موثوق يمكنه من معرفة الله تعالى و كيفية عبادته.

و كذلك المنهج الصالح لخلافة الأرض و عمارتها لا يمكن أن يأتي إلا من مصدر واحد هو الله تعالى.

فالله هو الذي يعلم حقيقة الإنسان لأنه هو الذي خلقه سبحانه: (ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير) (الملك:14).

و الله هو الذي يعلم كل شيء في حياة البشر – و في الكون كله – علم إحاطة و اطلاع: (يعلم ما يلج فى الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو الرحيم الغفور) (سبأ: 2)، (عالم الغيب لا يعزب عنه مثقال ذرة فى السموات ولا فى الأرض ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا فى كتاب مبين) (سبأ:3).

و الله هو الذي شرع التشريع الحكيم لأنه هو الغني القادر، و ليس محتاجاً إلى شيء مما عند الناس و هو الواهب لهم كل شيء، و هو الذى لا يزيد في ملكه أن يكون الناس كلهم على قلب أتقى رجل منهم، و لا ينقص في ملكه أن يكونوا على قلب أفجر رجل منهم كما يقول الحديث القدسي.

و الهداية الربانية الشرعية التي تشتمل على المنهج الصالح لحياة البشر طريقها هو الرسل و الرسالات.

و من ثم تصبح الرسالة حاجة بشرية لا غنى عنها، و لا استقامة لحياة البشر بدونها.

(لقد أرسلنا رسلناً بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط) (الحديد:25).

دعونا نطرح بعض التساؤلات:

س: كيف يصير البشر رسولا أو نبيا؟ و ما الفرق بين النبي و الرسول؟

ج: النبوة و الرسالة اصطفاء خالص من عند الله يختص به من يشاء من عباده، وليست شيئاً يكتسبه العباد من ذات أنفسهم بعمل يعملونه من جانبهم.

فكل الأعمال هي في أصلها موهبة من الله، و هي فيما تنتهي إليه كسب يكسبه البشر بجهد يبذلونه و تحصيل يكدون فيه و يكدحون.

أما الرسالة و النبوة فموهبة و منحة من الله ذات طبيعة مختلفة؛ إنه لا يد للإنسان فيها و لا كسب و لا اختيار، إنما هى اصطفاء خالص من الله سبحانه وتعالى لعبد من عباده، يجتبيه و ينعم عليه و يبعثه بالهداية إلى الناس: (الله يصطفى من الملائكة رسلاً ومن الناس إن الله سميع بصير) (الحج:75).

و هذا لا ينفي حقيقة أن الذين يصطفيهم الله ليكونوا رسلاً و أنبياء هم خيار الناس و أفضلهم: (وإنهم عندنا لمن المصطفين الأخيار) (ص:47).

و الأنبياء أنفسهم يتفاوتون في مراتبهم: (تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس) (البقرة:253).

و لكن النبوة فى حد ذاتها مرتبة فوق مراتب البشر العاديين؛ فهم بشر فيما يتعلق بالأمور العادية، و لكنهم ينفردون بهذه الخاصية الفريدة و هي تلقي الوحي من عند الله، و إرسالهم للناس ليبلغوهم ما أوحى الله به إليهم من الهدى و التبيان: (وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحى إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون) (الأنبياء:25).

و الفرق بين الرسول و النبي هو أن: الرسولَ مَنْ أُوحي إليه بشرع جديد، و النبيَّ هو المبعوث لتقرير شرع من قبله... فسمي الرسول رسولا؛ لأنه ذو رسالة.

س: ما هو الوحي؟ و كيف يحدث؟

ج: الوحي هو إخبار و إعلام الله من اصطفاه من عباده كلَّ ما أراد إطلاعه عليه من ألوان الهداية و العلم، بطريقة سرّية خفيّة، غير معتادة للبشر.

أما مقامات وحي الله إلى رسله: فيقول الله سبحانه وتعالى: (وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولاً فيوحى بإذنه ما يشاء إنه على حكيم) (الشورى:51).

المقام الأول: وحي يلقى في النفس مباشرة فتعرف أنه من الله، و يسمى ذلك أيضاً بالإلهام و منه رؤى الأنبياء كرؤيا سيدنا إبراهيم أنه يذبح ولده إسماعيل.

المقام الثاني: من وراء حجاب، كما كلم الله موسى عليه السلام، و كلّم الله عبده و رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم عندما عرج به إلى السماء...

المقام الثالث: يرسل الله الملك المكلف بالوحي (و هو جبريل) فيوحي إلى الرسول ما يشاء بطريقة من الطرق التي بينها رسول الله صلى الله عليه وسلم:

الأولى : ما كان يلقيه الملك في روع الرسول و قلبه دون أن يراه.

الثانية : أن يتمثل الملك للرسول في صورة رجل فيخاطبه حتى يعي عنه ما يقول.

الثالثة : أن يأتيه فى صورة صلصلة الجرس. و كان أشده عليه حتى إن جبينه ليتفصد عرقاً فى اليوم الشديد البرد، و حتى إن راحلته لتبرك به إلى الأرض إن كان راكبها.

الرابعة : أن يرى الملك في صورته التي خلق عليها، فيوحي إليه ما شاء الله أن يوحيه، و هذا وقع للرسول محمد صلى الله عليه وسلم مرتين.

س: ما الدليل على صدق الرسل و بأي شيء أيدهم الله تعالى؟

ج- أيدهم الله بالدلالة الباهرة الدالة على صدقهم في دعواهم الرسالة (و هي ما يسمى بالمعجزة)، مع انضمام ذلك إلى أحوالهم الجليلة و أخلاقهم السامية من الصدق و الأمانة و الحلم و الرشد و سلامة الفطرة و العفاف و الكرم و الشجاعة و العدل و النصح و المروءة التامة ... إلى غير ذلك من الأخلاق الفاضلة الدالة لمن تأملها أن ما جاءوا حق و صدق لا شك فيه.

و المعجزة: شيء خارق لمألوف البشر يأتي به النبي المرسل من عند الله و يتحدى الناس أن يأتوا بمثله فيعجزون عن ذلك، فيكون هذا دليلاً على أنه مرسل من عند الله حقاً و ليس قائماً بدعوى كاذبة من عند نفسه.

و قد كان كل نبي يأتي بمعجزة من جنس ما اشتهر به قومه ليكون التحدي في الصميم، و يكون تأثيرها حاسماً في نفوس من تتنزل عليهم. فقد كان المصريون بارعين فى السحر، و كان كهنة المعابد الفرعونية متخصصين فيه، لذلك أرسل الله موسى بمعجزة من جنس ما اشتهر به أولئك السحرة، ليبطل سحرهم و يتبدى الفرق بين ما يقدر عليه البشر و ما يقدر عليه خالق البشر....

و لقد كانت معجزات الرسل كلهم من قبل معجزات حسية و كونية تتعلق بالسنن الجارية في الكون و تخرقها، أما معجزة الرسول صلى الله عليه وسلم فهي معجزة عقلية معنوية جامعة، و ليست معجزة حسية و لا كونية، و إن للرسول صلى الله عليه وسلم معجزات أخرى حسية و كونية كالإسراء و المعراج و انشقاق القمر ...إلخ و لكن المعجزة الكبرى التي وقع بها التحدي، و التي بقيت على الزمن و خوطبت بها البشرية كلها هي القرآن.

*****

و الله أعلم.

سبحانك اللهم و بحمدك.. نشهد أن لا إله إلا أنت.. نستغفرك و نتوب إليك.

يتبع إن شاء الله الدرس القادم تفصيل الإيمان بالرسل.

هناك تعليقان (٢):

3D يقول...

شكراً جزيلاً

محمد عبد المنعم يقول...

بل نحن الذين نشكركم... و الحمد لله على نعمة الإسلام